Monday, August 24, 2009

تنوة الكلام


1- كنت أجلس على مقهى (بطاطه) في الظهيرة الصيفية الحارقة كالعاده, أشرب قهوتهم الخفيفة عديمة الطعم, وأدخن شيشتهم كثيرة الجمر نادرة المعسل, كانت الشمس تلهب بسياط غاضبة بلاطات الرصيف التي ركبوها حديثا برداءة واضحة, كان حلقي جافا, وزادته الشيشة الملتهبة جفافا, أثارت المركبات المتزاحمة بشارع محرم بك المختنق سحابات لا تتبدد من الأتربة الساخنه الناضحة برائحة الأسمنت والصرف الصحي, أشرت للقهوجي وطلبت بثقة وإلحاح -لئلا ينسى- هات كبايتين ميه وحياتك يا هيما, أنقلب وجهه وعلته أبتسامة محرجة بديلة لأبتسامته الساخرة اللزجة الإعتياديه, : لا مؤاخذه يا باشا, دي أوامر المحافظه, واشار للافتة معلقة على مدخل المقهى مكتوبة بخط ردىء معوج:
طبقا لتعليمات مديرية التموين والمحافظه تقدم كوباية ميه واحده مع كل طلب, وكل كوبايه زياده مقابل 35 قرشا
أستيقظت وحلقي يؤلمني من الظمأ, وتذكرت أن وزير الري صرح بأن مخزون مصر من المياه يكفيها لخمس أو ست أعوام.

2- رأيتني اقف في صف طويل, ظننته في البداية طابور الفرن البلدي, إلا أن نظافة المكان وهواء المكيف الرطب ورائحة البرفانات أكدت لي أنني حتما لا أقف في طابور الفرن, لكن في مكان لم يمكنني التعرف عليه, بدا لي ككافيتريا من تلك الكافتريات الجديدة التي تقلد الكافتريات الأوروبيه في سخافة وسقم ذوق, ولا تقدم سوى القهوه الموكا والكابتشينو وأنواع أخرى من إهانات البن الزاعقة الاسماء والسخيفة الطعوم, لكن أرفف زجاجية أنيقة مملوءة بالكتب والقطع الفخارية التزينيه جعلتني أشك في أنها أقرب للمكتبه, ربما كافتيريا/مكتبه, أو أي أختراع جديد تفتق عنه ذهن برجوازي مسطح , وجهت أنتباهي لمني يقفون معي في الصف ربما أجد وسطهم إجابه, أمامي وقفت فتاة قصيرة نحيلة ترتدي حجابا زاعق الألوان لابد أنه يحتوي توبا كاملا من القماش , وبادي اصفر
اللون يلتصق بجسدها النحيل ألتصاقا يثير خيالات كريكاتورية حول كيف ترتديه أو تخلعه, كانت تتواثب متحمسة وهي تنظر من خلف كتف الواقفة أمامها والتي كانت ترتدي توبا كاملا من القماش
فوق رأسها هي الأخرى مع بادي وردي اللون, أنحنيت نحوها هامسا: بعد أذنك, هو الطابور ده ليه؟ كان صوتي منخفضا جدا ولدهشتي أن همسي الخفيض أمكنه أختراق طبقات القماش حول أذنيها, ألتفتت غلي بنصف وجه وحدجتني بنظرة سكبت حملوة عربة نقل من الأحتقار على وجهي و عادت للنظر من خلف كتف من تقف أمامها, تلفت حولي,وقد خجلت أن أسألها مرة أخرى, أثرت الصمت وتضييع الوقت الذي بدا بلا نهاية في تأمل ديكور المكان, بعد ما يقرب من الساعة رايت أنه لم يتبق أمامي سوى الفتاتين ذوات الحجاب الهائل, شببت على أطراف أصابعي متفاديا تلتي القماش فوق راسيهما لأرى ما الذي أنتظرت كل هذا الوقت مع كل هؤلاء الناس للوصول إليه, كانت ذات الالبادي الوردي تنحني في شبه خشوع على مكتب صغير جلس خلفه شاب عشريني بلحية نابتة وشعر مهوش وعينين مجهدتين محمرتين, فتحت أمامه ما يبدو ككتاب قليل الصفحات, ودون أن ينظر إليها رفع أصبع السبابة وضغطه في محبرة بجانبه ثم بصم لها على الكتاب الذي أغلقته على الفور وأنسحبت خجلة مع ابتسامة أبتهاج هائله على شفتيها المخضبتين بلون أحمر قان مستفز , ألتفت خلفي لصبي في لا يتجاوز عمره العشرين يلف عنقه بكوفيه فلسطينيه رغم حرارة الجو وسألته : هي أيه الحكايه؟ أحنا بنعمل أيه هنا؟ هو الأخ ده بيعمل أيه؟
شمخ بأنفه متعالما وأجابني بكلمات تقطر إحتقارا: ده حفلة توقيع رواية الاستاذ وهو بيوقع على النسخ:

3- رأيتني في عربة الترام في ظهيرة خانقه, أكافح الزحام البشري الناضح برائحة العرق محاولا الوصول قرب باب النزول فالترام يستعد للإنعطاف يمينا بعد جامع (العمري) إذا أقتربت محطتي, كان أكثر ما يضايقني جسم لزج متماسك ساخن في قبضتي اليمنى, المحشورة خلفي وسط الزحام, وجدت صعوبة كبيرة في سحبها, وحين نجحت أخيرا في وضعها أمامي رايت فيها كفا سمراء رجولية خشنه معلقة في طرف ذراع سميك ومغطا بالعرق لشاب صغير بوجه اسمر طيب وعينان لامعتان وجثة ضخمة لا توحي بصغر سنه, كان ينفخ من شدة الحر والزحام ووجه الاسمر الممتلىء ينضح بالعرق والإحمرار, هتف باستسلام محاولا التفوق على ضوضاء الترام وركابه: ألم نصل لمحطتنا بعد؟
أجبته كأنني أعرف عما يتحدث: المحطه القادمه على طول, بس نوصل للباب
دفعته أمامي مستندا بكفي على كتفيه مستغلا جرمه الضخم في إزاحة التكتل البشري أمام الباب, بما يشبه حالة الولادة أستطعنا النزول, أعدت كفه لكفي كأنني أخاف عليه من الضياع, وأسرعنا بعبور الطريق مررنا بورش تصنيع الأستانليس المواجهة لضريح أبو الدردار, أنعطفت به في أول ممر إلى اليسار, في منتصف الممر وقفت امام باب ورشة مظلمة المدخل, وسط عتمتها أمكنني رؤية اشباح اشخاص يقفون أمام طاولات كبيرة منحنين ويدي كلا منهم مشغولة بشىء ما امامه, هتفت نحو العتمه: يا اسطى, يا اسطى السلامو عليكو
خرج من العتمة رجل في أواخر الأربعينيات, أسمر بصلعة واضحه وعوينات صغيرة مربعه , مد لي يده بالسلام مرحبا واشار لمرافقي دون ان يصافحه: هو ده؟
أبتسمت وهززت راسي مشيرا غليه بفخر: أيوه هو ده, شغال كويس ع الفايس بوك والبلوجات والبركه فيك أنت بقى تعلمه الصنعه ويطلع من تحت أيدك معلم كبير, وهو دماغه كويسه ومؤدب وحتى السجاره مابيشربهاش, مددت إليه كف مرافقي : أستلم يا عم صبيك الجديد, وهممت بالإنصراف, تمسك الفتى بذراعي مرتبكا, فربت على كفه مشجعا: ما تخافش يا ابني, هي دي الورشه الي كنت بتسأل عليها, بكره تطلع منها روائي كبير وكلنا نفتخر بيك, وأنصرفت.

4- وكنت أمر بجوار جامع القائد إبراهيم في طريقي إلى محطة الرمل, أنحشرت وسط الصيوانات محاولا الإفلات من زحام شارع التورماي, أثناء مروري بجانب أحد الصيوانات كان طرف القماش مرفوعا جزئيا عن القسم المخصص للمعزيات من النساء, رميت بنظري داخله بدافع الفضول فراعني أن رايت أمي وزوجتي جالستين وسط المعزيات ومتشحتين بالسواد, أمتلأت الكراسي حولهن بقريبات وجارات ونساء لا أعرفهن وحتى نساء عرفتهن منذ أزمنة بعيدة وأنقطعت صلتي بهن ما أدهشني أن أحدا لم يكن يبكي أو ينتحب ولا حتى أمي وزوجتي, كن فقط يميمصن شفاههن, وقع قلبي في قدمي هلعا فركضت ركضا إلى الناحية الأخرى من الصيوان حيث المعزيين الرجال, كان أبي يقف كعادته ببذة أنيقة وربطة عنق متناسقة الألوان وهو يصافح جماعة من المعزين بأبتسامة خفيفة ونظرة واثقه حيث يمرون بعده لمصافحة أحد أعمامي ومجموعة من أبناء عمومتي لم ارهم منذ سنوات ثم مجموعة أخرى من الرجال الذين لا أعرف أحد منهم, تقدمت متوجسا من أبي مددت يدي نحوه فصافحني محدقا في وجهي بحيادية كأنما لم يرني من قبل قط, تمتمت : البقيه في حياتك, فلم يجبنب سوى بأبتسامة باهتة ومصمصة شفاه , صافحت عمي فلم يجبني سوى بمصمصة الشفاه هو الأخر وهكذا فعل ابناء عمومتي والصف الطويل من الرجال الذين لا أعرفهم والذين نهضوا لتلقي العزاء, الجميع أجابوا تعزيتي بمصمة للشفاه...وفقط
عدت لأول الصف وأنحشرت ضاغطا ما بين أبي وعمي, أنتهزت فرصة تباطوء أحد المعزين في دخول الصيوان وأنحنيت على أبي متسائلا: هو ده عزا مين يا حاج؟
أجابني دون أن ينظر نحوي حيث كان متجها بكليته للمعزي القادم الذي بدى شخصية هامة: عزا ابني ياسر
سالته مندهشا: هو مات؟
أجابني وهو يتقدم نحو المعزي الهام مرحبا: أيوه...الله يرحمه وده عزائه
أندفع الدم فائرا لراسي وغلى الغضب في عروقي
خرجت من صف المعزين وألتفت نحوهم هاتفا بكل غضبي وبأعلى صوت أستطعته:
يا عديمي الرجولة والنخوه أتقبلون فيه العزاء ولم يؤخذ بثاره بعد؟,