ينشر هذا المقال مترجما إلى الفرنسيه في مجلة البديل التحرري الأناركيه الفرنسيه
كيف يبدو الوضع في مصر؟...يا له من سؤال كابوسي، أجابات مثل: لا أعلم، (مش
فاهم حاجه) غير مقبولة طبعا، لكن كيف يمكنك ان تحلل أو تشرح وضعا يبدو كشىء من
نتاج قلم صمويل بيكيت أو يوجين يونسكو؟ أو كمشهد من فيلم (الغواصة الصفراء) الذي
يحتفي بالهلوسه؟ كيف يمكنك أن تقدم شيئا قابلا للتناول، شيئا أكثر من التعبير عن
الحيرة أو مجرد لوحة (كولاج) مربكه؟
منذ حوالي العام والنصف وفي أحتفالية سياسية بأفتتاح مقر للتروتسكيين
بالإسكندريه، طرح أحد قادتهم الأكثر بروزا جوهرته الفكرية فيما اسماه نظرية (أعمدة
الثورة السته) وهي : الحركات الشبابية، الالتراس،المرأه،العمال،الفلاحين،الصيادين،
الحقيقه أن الرجل لم يكن يمزح، بل كان جادا جدا، ربما تصلح نظريته الكريكاتيريه معيار
ومؤشر على مستوى أنحطاط الفكر السياسي بمصر و لفهم القوى الفاعله في الحاله
السورياليه المسماة الثورة المصريه:
الحقيقة أنه داخل تلك السوريالية تقبع مسارات محددة قوية التأثير، مسارات
وضعت ركائزها قبل عقود، لكنها لم تتوقف أبدا عن تشكيل المجتمع المصري ووسم حركتها
بوسمها:
إنحلال الفكر السياسي المصري
يحفظ كل مواطن سوري مجموعة من الأناشيد والهتافات الممجدة لحزب البعث
ولأيدولوجيته، بغض النظر عن موقفه من الحزب والنظام فلا حيلة له في ذلك، فهي كانت –
وما زالت- مفروضة وبصرامة على طلاب المدارس السوريه، لكننا في مصر لا نحفظ مثل تلك
الأناشيد، وهي لم توجد أبدا منذ انهيار النظام الناصري في 1970، وما عدا بعض الجمل
المستهلكه التي كان تدرس في منهج (التربية الوطنية) بالمدارس فلا حضور على الإطلاق
لأي تمجيد للحزب الحاكم أو أيدولوجيته، ليس لأن الحزب الوطني الذي حكم مصر طوال
عهد مبارك – والذي لم يكن سوى أمتداد مباشر للأتحاد الاشتراكي العربي الناصري- كان
أقل فاشية وشمولية من أخيه البعث العربي السوري، بل لأن كراهية الأيدولوجيا والنفور
من التنظيم الحزبي المتماسك أصبحت عقيدة النظام الحاكم في مصر، فمنذ أكتشاف النظام
الناصري أن (منظمة الشباب الاشتراكي) التي أنشئها لتكون مدرسة لكوادر الحزب الحاكم
قد اصابتها عدوى الشيوعية وأصبحت كيانا يتمتع باستقلالية عاليه مما أضطره لتدميرها
والتنكيل بأعضائها، منذ ذلك الاكتشاف أدرك النظام أن (الأيدولوجيا) في حد ذاتها
أمرا غير مرغوب فيه، وأن التنظيم الحديدي – حتى وإن كان حاكما- لعبة خطره يستحسن
تجنبها، وعليه تبنى النظام (الميوعه الفكريه والتنظيميه) كايدولوجيا أساسيه له،
فالحزب الحاكم تحول بوضوح لنادي لأصحاب المصالح والسياسيين المحترفين الفاسدين، لا
يمتلك سوى شعارات غائمه تخلط ما بين الوطنيه الشوفينيه وبقايا التمجيد الناصري
لدور الدولة في ضبط الأقتصاد، مع تشجيع متصاعد للراسمالية الوطنيه ظهرت بوادره في
الحقبة الناصرية نفسها.
هذا الأفتقاد للأيدولوجيا وللأفكار السياسيه الواضحه لم تكن قاصرة على
الحزب الحاكم فقط، بل تبنتها كافة الأحزاب والحركات السياسية المصريه في محاولة
لمواجهة الخطاب الشعبوي الهلامي للحزب الحاكم الذي كان يدافع عن مصالح العمال
ويشجع المستثمرين في نفس السطر، فكانت برامج وتوجهات القوى السياسية جميعا على نفس
الشاكله: خطاب شعبوي ديماجوجي رخو بلا معنى واضح تمتزج فيه الشعارات الوطنيه
بالتوجهات الأشتراكيه بالميول الراسماليه، حتى التيار الإسلامي كان شعاره الأشهر
منذ الثمانينيات هو (الإسلام هو الحل) فقط، دون شرح أو توضيح، بينما تبنى الحزب
الشيوعي المصري وواجهته العلنيه (التجمع ) مقولة تكوين جبهة وطنية موسعة يمكن
تحويلها لجبهة إشتراكية فيما بعد.
منظمات المجتمع المدني...أفيون السياسيين.
كانت هذه المنظمات بدخولها مصر – منذ أوائل التسعينيات- النبي المبشر بقيم
الليبراليون الجدد وحقبة ما بعد انهيار الأتحاد السوفيتي، حاملة لكل الهرطقات
الفكرية لفوكو وإن لم تعلن ذلك أو تعيه، معادية للأيدولوجيا، عدائية ضد الافكار
السياسية، بل عدائية ضد السياسة نفسها رغم أنها تورطت فيها بشروطها الخاصه، جمعت
بسرعة تحت جناحيها أيتام الحركة اليسارية المصرية وقدمت لهم مظلة جديدة يتجمعون
تحتها بدلا من مظلة أحزابهم البائده، مظلة شرعية هذه المرة، ومحمية بدعم غربي لا
يمكن نكران صلابته، والأهم انها غنيه، سمينة بما يضخ فيها من تمويلات أجنبية
كريمه، كانت تلك الضربة الثانية القاصمه للنشاطط السياسي الجاد وللإنتماء
الايدولوجي من أي نوع طارحة مفاهيم مبهمة لامعة المظهر مثل: النشاط الإجتماعي
اللامسيس، التنميه المستدامه، الناشط الحقوقي، وحتى الإسلاميين وجدوا فيها أرضا
خصبة للحركة ومظلة خماية وأداة هامة في صراعهم مع النظام، وفرت لهم شرعية لتواصلهم
مع القوى الأجنبيه وقوة دفاعية مهمه.
الصراع السياسي في عالم السنافر
كان أواسط الالفية حقبة نمو وإزدهار مجموعة هائلة من الحركات (السياسيه)
منزوعة الأيدولوجيا، مبهمة التوجه، كانت بدايتها حركة (كفايه) التي لم يكن
برنامجها في الحقيقة سوى أسمها (كفايه)، كأنما هي مجرد تعبير عن الملل من طول فترة
حكم مبارك، دون اي بعد اجتماعي أو فكري واضح، ومن رحمها ولدت حركات أكثر غرابة
تبدأ باي كلمة شئت يعقبها (من أجل التغيير)، فاصبح لدينا أطباء، ومهندسون وعمال
وشباب ...إلخ من أجل التغيير) التغيير لماذ وكيف ؟ لم يكن الأمر مهما، فقط
(التغيير) مفهوم جديد حل محل كلمة (ثوره) أو حتى (إنتفاضه) تقزيم للفكرة نفسها،
ومسخ لفكرة الحزب او الحركة السياسية وتحويلها لشكل كاريكاتيري من تجمع (شلة) تهدف
للتغيير، في انقطاع تام عن أي تواصل شعبي أو طبقي، وإن كانوا جميعا ينتمون للطبقة
الوسطى وشرائحها الأكثر برجوازيه، ومن أهم مميزات تلك الحركات أعتصامها الدائم
بسلم نقابة الصحفيين، وتباهيها بذلك الإعتصام.
ثم أكتملت المجموعة الكاريكاتيريه بتأسيس حركة (6 ابريل)- النسخه المحليه
الرديئه لحركة أوتوبور الصربيه- والتي يقول تعريفها على الويكيبيديا: (أغلب اعضاء الحركة
من الشباب الذين لا ينتمون إلى تيار أو حزب سياسي معين وتحرص الحركة على عدم تبنيها
لأيدلولوجية معينة حفاظا على التنوع الأيديولجي داخل الحركة ولما تفرضه ظروف مصر من
ضرورة التوحد والائتلاف ونبذ الخلاف)، وهو ما ارى فيه ولاء واضح للفكرة التي
تبناها الحزب الوطني الحاكم ( جبهة وطنية موسعه تتعالى على الايدولوجيات)، في
النهايه كان الصراع السياسي حالة كاريكاتيرية ، فالمعارضه ترفع شعار (التغيير)
والنظام يرفع شعار (فكر جديد...من أجلك أنت)!!!
هذا التقزم الشديد للفكر السياسي هو السبب لما نراه الأن من حالة
سوريالية بالحراك الإجتماعي المصري، فبسبب غياب حركات سياسية حقيقيه لها برامج
محدده، وبسبب تحلل المفاهيم السياسيه نجد تكتلات عشوائية مرتبكة المفاهيم تعبر فعلا
عن الأزمة العقلية والمعرفية لمتعلمين الطبقة الوسطى، مما يفسح المجال لكيانات
هلامية جوفاء لركوب الحراك الجماهيري وتشويه مساره، بداية من إئتلافات شباب
الثوره، وصولا لحركة 6 ابريل التي تشظت وتفتت لعدة حركات غير فعاله، وصولا إلى
ذروة الملهاه بتقدم حركات الألتراس المسيرات الجماهيريه معلنين أنفسهم (حماة
للثوره) وفرسانا لها، لا لشىء إلا لكونهم (منظمين) ينقلون مهارات وسلوكيات مدرجات
كرة القدم للشارع، غلى هذا الحد وصل جوع الشارع للتنظيم وافتقاده له إلى حد خضوعه
لقيادة مراهقين لا يمتلكون فكرة أبعد من تشجيع كرة القدم، وثارهم الدائم مع قوات
شرطة الشغب بأعتبارهم مشاغبين محترفين، متجاهلا أو غير واعيا بميولهم الفاشية
الواضحه، واحتقارهم للمرأة وأنحياز أغلبهم للتيار الإسلامي بما يمليه عليهم وعيهم
المسطح وتنظيمهم الهرمي، إلا ان الملهاة الثوريه لا تنتهي هاهنا، فالالتراس يفسحون
الطريق لحركة (البلاك بلوك) التي تبدو تجمعا عشوائيا لعناصر من الالتراس رفضوا
الأنضواء تحت التيار الإسلامي وبقايا عناصر 6 ابريل، تنظيم لا يجمعه سوى أرتداء
أعضائه للاقنعة السوداء أو قناع (فانديتا) الشهير، يطلقون التهديدات الجوفاء على
الفايس بوك، ويدعون الأناركيه، رغم أن أطروحاتهم البسيطة الضحله لا تحمل سوى بصمة
الالتراس و6 ابريل الواضحه، الثوره كعنوان للمشاغبه ليس إلا بلا هدف محدد، فكرة
الجبهه الوطنيه والشعب الواحد، وانعدام اي طرح أجتماعي أو فكري واضح، وربما يكون
أنتحالهم للأناركية الذي توافق مع أرتفاع مستوى نشاط الحركة الاشتراكية التحررية
صدفة محضه، أو أمرا مقصودا، يبقى سؤالا ينتظر الإجابه.
الإبحار خارج المستنقع:
كانت المهمة الأكثر حيوية التي تقع على عاتقنا كأشتراكيين تحرريين، هي
الخروج من هذا المستنقع للملهاة الثوريه، قطع الصله مع أشكال النضال الكاريكاتيريه
المستهلكه، لم يكن أمرا سهلا أن قررنا مقاطعة المسيرات السبوعيه التي يسيطر عليها
مجموعات مجهولة لا تقدم طرحا سياسيا له معنى، وأغلبها جل همه افتعال صدام مع شرطة
بلغت في توحشها وقسوتها حدودا هستيريه، فيما اصبح يسمى (صدامات يوم الجمعه) والتي
تنتهي دائما بلا شىء سوى إصابات وأعتقالات ويذهب الجميع لبيوتهم قرب الفجر حتى في
الحالات التي وصل فيها العنف لدرجة سقوط قتلى، فبدون فكرة أو أستراتيجيه لن يستمر
اي صدام طويلا، يجب أن تركز
الحركة على التحريض ونشر افكارها السياسية، وخلق حلقات نقاش وحوار تلقائية في
الشوارع والحقيقة أن حملة (أحرقوا دستورهم) لكشف الأنحياز الطبقي لدستور الاخوان
ضد الفقراء والكادحين احرزت قبولا لافتا، ويجب الاستعداد لإطلاق حملات دعائية
متعددة بنفس التكنيك هما :
حملة من أجل نقابات
حره تطرح الفكرة السينديكالية للنقابة الأفقية الثورية بديلا عن النقابات المستقلة
أو الحكوميه الهرمية الطابع الصفراء الأداء.
طرح دستور
الاشتراكيين التحرريين، وهو برنامجنا النضالي جماهيريا، وشرح أي مجتمع تناضل
الأناركية من أجل تأسيسه، محاولين أن نقدم للشارع الثائر إجابة على سؤاله الذي لا
يريد احد أجابته : ما البديل لنظام الأخوان؟
ويجب أن تتركز الحملات بالمناطق العمالية والعشوائية الأكثر فقرا، إن
مهمتنا الأكثر حيوية كاشتراكيين تحرريين هي تجذير الأفكار والمفاهيم والشعارات
الاناركية بالمجتمع المصري، خلق البراكسيس (التقليد) الأناركي، يجب تأكيد وجودنا
في المجتمع كتيار سياسي وفكري أصيل ومعروف بشكل جيد، يجب أن نختط لأنفسنا تكنيكات
نضالية ودعوية خاصة بنا، تخدم مبادئنا وأهدافنا، لا أن ننجرف وسط تيارات تحول
الثورة غلى ما يشبه السيرك والمولد.
بأختصار نهدف أن نكون صوتا جادا صادقا وسط سيرك من المهرجين والبهلوانات
السياسيين.