Saturday, October 10, 2009

نصل أوكام البتار...1 من 2


مدخل:
يبدو العنوان كمقتطف من مسلسل (غرندايزر), إلا أن نصل أوكام ليس في الحقيقة من أسلحة الروبوت العملاق القادم من فليت للدفاع عن الأرض ضد هجمات فيغا, نصل أوكام هو قاعدة منطقية من وضع المفكر الفرانسيسكاني أوكام والذي توفي في العام 1349, وتنص هذه القاعدة ببساطة على أنه يجب عدم زيادة عدد الكيانات بغير حاجه, أو بمعنى أخر : لماذا تستخدم الأكثر بينما الأقل يكفي, أو بشكل أكثر تحديدا- ونحن نتكلم عن المنطق- أنه لا يجب أن تتصور عللا متكاثرة بينما علة واحدة تكفي, عليك أن تحاول دائما أن يكون عدد فروضك هو الحد الادنى ولا تكثر من عدد البديهيات.
بالنسبة إلي كان نصل أوكام (لُقيه) كنزا حقيقيا, أحمله معي كما يحمل البلطجي (البشله) ليشهرها في أسوأ أوقات العراك ممزقا وجه غريمه بلا رحمه, نصل أوكام المنطقي هو سلاحي الوحيد تقريبا والأكثر حدة ضد الركام الطويل العريض من الكلمات والتنظيرات والكتب - المكتوبة بالعربية- التي يقيئها العالم في رأسي, سلاح يمكنني من تمزيق كل ذلك التراكم والزحام المعلوماتي الغير برىء وصولا إلى الحقيقة البسيطة المنسحقة تحت الزيف
هل تدعو بذلك للتبسيطيه؟
على الإطلاق, أنا أخر من يتخيل عالما بسيطا, وأنا أعلم تماما مدى تعقيد وتركيب العالم والمجتمع البشري خصوصا, لكن ذلك ليس صحيحا دائما, كثيرا ما تكون للأسئلة البسيطة المباشرة أجابات بسيطة حادة الأطراف, وعادة ما تكون للظواهر الأكثر فجاجة أسباب بسيطة وقحة لا تقل عنها فجاجه
لنأخذ مثالا:
سؤال: لماذا تبيع الحكومة المصرية الغاز الطبيعي بسعر اقل من سعر التكلفة لإسرائيل أو بالتحديد للشركات الإسرائيليه؟ ولماذا تبيع نفس الحكومة نفس السلعة بسعر اقل من السعر العالمي لشركة أسبانيه؟
سؤالان سكب من أجل الإجابة عليهما نهرا صغيرا من الحبر ليروي افدنة من الورق وأستهلكت كيلوات لا حصر لها من الكهرباء في البث الفضائي, لمجرد الإجابة على سؤالين بسيطين ،خلقت قطعان كاملة من النظريات المدعمة بالتنظير والمحقونة بالأيدلوجيا والموشاة بالإقتصاد والسياسة وكل علم إنساني يمكن بيع مقولاته
أنا لا شأن لي بذلك, أنا أمتلك نصل أوكام, ونصل أوكام يوصلني للفرضية الأبسط والأكثر منطقيه التي تقول:
أن الحكومة المصرية تبيع الغاز الطبيعي بالخسارة لأن مسئولا كبيرا جدا بالحكومة المصرية يحصل على رشوة كبيرة جدا للقيام بمثل تلك الصفقات المشبوهة, مجرد لص مهما بلغ حجمه ومنصبه وسلطاته, مثله كمثل أحقر أمين مخزن مرتشي بمخزن أتفه جمعية زراعيه باصغر كفر في مصر, مجرد مرتشي, لا ارى سياسة ولا تنظير ولا أقتصاد ولا مؤامرة كونية صهيونيه أمريكيه, أرى مسئولا مرتشيا يبيع ما أؤتمن عليه من بضاعه مقابل رشوه

لكن هل أنا عبقري مثلا حتى أصل لتلك النتيجه ويعجز عن بلوغها كل هؤلاء الدكاتره والأساتذه والبهوات اللامعي الوجوه على صفحات الجرائد وفي الفضائيات؟ هل لا يعرف أحد من كل هؤلاء الجهابذة بوجود نصل أوكام وتقتصر معرفته علي أنا فقط الكاتب الأنترنتي المغمور؟ الأجابة هي : لأ, بالطبع لا , لكن الحقيقة أنني لو دعيت للرغي في فضائية ما أو لسكب الكلمات في جريدة ما فالحق أقول أنني ساترك نصل أوكام في البيت, واصطحب معي كل ذخيرتي من التنظير والتفسير والتسييس والتقنين والفصاحة والبلاغة والتلاعب بكل جملة ولفظ ممكن في لغة الضاد, لأنني ببساطة لو أتيت القوم بهذه الإجابة البسيطة فمن أين سأتي بكلمات تملأ ثلاثة ارباع الساعة من البث الفضائي, أو نصف صفحة من البث الصحفي
نعم يا أعزائي , يجب أن تكون الإجابات معقدة ومخفية والإحتمالات متعددة ولود خصبة ولا نهائيه, وإلا فمن اين سنأتي برغي الفضائيات, وبكتابة الصحف, وعما سنؤلف الكتب ونلقي المحاضرات ونحصل على الدرجات العلميه , ليذهب أوكام ونصله للجحيم وليكن العالم سيركا معلوماتيا لا أخر لعروضه العجيبه

نموذج أخر لو لا أطيل عليكم
سؤال عمره عقود وإجاباته لا تنتهي ولا تنفد وتنظيراته لا تعد ولا تحصى
لماذا تعددت الإنشقاقات في الحركة الشيوعية المصرية طوال عقدي الستينيات والسبعينيات؟ لماذا كان ينقسم كل تنظيم سري لا يزيد عدده عن أصابع اليدين ليصبح تنظيمين لا يزيد عدد أفراد ايا منهما عن اصابع اليد الواحده - شاملا عملاء المباحث-؟
أعترف انني نسيت نصل أوكام أمام هذا السؤال ورحت أدور في حلقة المجذوبين محاولا البحث عن إجابة مثقفة منطقية مؤدلجة شاملة مانعه تائها وسط غابة لا نهاية لها من الفرضيات المتعددة والمختلفه, حتى أوصلني حوارودي مع صديق عجوز عاش طويلا على هامش اليسار إلى الحقيقة الساطعة التي برق تحت ضوئها الساطع نصل أوكام محددا الفرضية الوحيدة المنطقية والأكثر واقعية, لم ينقسموا ويتشظوا لاسباب أيدولوجية ولا فكريه, ببساطه أنشقوا وأنقسموا لاسباب بنكيه, لأن رءوس التنظيمات أختلفوا وتعاركوا دائما على نصيب كل منهم من الدعم الذي كان يتدفق من الخارج- أيا كان ذلك الخارج - تعارك الرفاق القادة على مناصب السكرتير وعضو المكتب السياسي أو اللجنة المركزية طمعا في المغنم المادي, في الأصفر الرنان, في البنكنوت الرفاقي الذي كان يتدفق على من تدق الثورة ابوابهم, لهذا أنقسموا وأنشقوا وأتحدوا وعادوا لينقسموا وينشقوا ويجرجرون رفاقهم الغارقين في رومانسيتهم الثورية من زنزانة لأخرى, ومن إكتئاب لإنتحار لهوس جنوني, ولنفس السبب تدله اليسار المصري السبعيني في حب وعشق الثورة الفلسطينية والتراب الفلسطيني , وأعلن حزب العمال الشيوعي أن تحرير مصر يبدأ من تحرير فلسطين, لأن الرفاق أعضاء منظمة التحرير كانوا يدعمون ذلك الحس الثوري بالشيكات والهبات والأظرف المكتنزه, والشيكات الفواحه
نصل أوكام عليه اللعنه
لكنني لم أطرح تلك الأمثلة السابقة إلا للتدليل والتبسيط فقط, وما أنوي أن أسلط عليه النصل المنطقي هو أبسط كثيرا من تلك القضايا التاريخيه الكونيه ومن اراد الأعتراض فأنا أدخن الشيشة كل يوم جمعه على مقهى الوطنيه ما بين الساعه 1- 3 ظهرا

السؤال الذي انوي أن أُعمل فيه نصل أوكام البتار هو:
لماذا يصبح شخص ما كاتبا أديبا فخيما شهيرا يشار له بالبنان وتدبج فيه المقالات وتدعوه الفضائيات؟
أظن أنني قادر على إجابة هذا السؤال على الاقل لأنني فشلت فشلا ذريعا في أن أكون ذلك الكائن الكاتب الأديب الشهير الفضائي

موت الكاتب
لنبدا أولا بالبضاعه, الكتابة في حد ذاتها أو لنكون اكثر تحديدا أنا أتحدث عن الكلمة المكتوبه, في العصور القديمة كانت للكلمة المكتوبة قداسة خاصه, كانت تتربع في صدور الصحف او على عروش الكتب, وحتى في الورقة التي تصبح قرطاس الفلافل المزيت كان للكلمات قداسة لم تزل, كان ذلك في العصر الحجري الحديث حتى أتت الأنترنت, وتعربت الأنترنت, ونجح مشروع كمبيوتر لكل طالب وأخاه السري( كمبيوتر لكل جاهل) وأصبحت الوصلة في كل مكان, ثم اضاف البشر لأكتشافاتهم العظمى أكتشاف المدونات, فأنفجروباء الكتابه, وصارت الكلمات المطبوعة تباع بالأردب وأحيانا بالبركه, صارت الكلمات المطبوعة في كل مكان وبكل شكل ومقياس ولون, لم يعد للكلمة المطبوعة اي قداسه, وصار كل من يستطيع وضع اصابعه على الكي بورد قادرعلى انتاج كلمات مطبوعه يمكن عرضها للغير, وأصبح كل من كتب صفحتي وورد على تدوينه - حاجه ببلاش كده- قادر على ألصاق كلمة كاتب بنفسه, قامت قيامة الكتابه وأصبح شعار المرحله (كاتب لكل مواطن) وأنتجت الكتابة الجديدة قوانين جديده فأصبح لدينا الكاتب أحادي العمل, والكتابة النظيفه, والكاتبه المؤدبه المتربيه , وأصبحت 140 صفحه من أصغر قطع ممكن للكتب تعد (روايه) بل واصبح لدينا سرد جديد, وفصيلة جديدة كاملة من الكائنات المطبوعه, مات الكاتب ليحل محله كائن جديد قادم من فيافي التدوين أو قفار الصحافة ليصرخ في برية الأدب الخاوية معلنا أنه سيدها الجديد

إنبعاث الناشر والكتابة ال
Take Away
إذا كانت الكلمات المطبوعة بضاعة فلكل بضاعة تاجر , إن قال الإعلان التلفزيوني الحكومي أن المول مشروع استثماري مهم لأنه عمل به مصطفى وحسنين وعبد البر الذي اشترى لمراته دستة كتاكيت تربيهم, فإن السرد الجديد مشروع استثماري مهم لأنه سيفتح باب رزق لزعيط وعيط ونطاط الحيط, وهم هنا دور النشر وهي على صنفين, قديمة عريقة تغوص جذورها في الزمن كشجرة الزقوم, أو جديدة مستجلبة تتبرعم كشجيرات الهيش والحلفاء, أما الأولى فليست بقضيتي إنما قضية قانون: من أين لك هذا؟ لو كان ما يزال باقيا, أما الثانية فهي الأكثر إثارة للتساؤل: من اين تأتي تلك الدور الناشرة؟ ومن أين تأتي براس مالها؟ بل من أين تأتي بالبضاعة التي تبيعها، هذه هي الحقبة الميريتية يا أعزائي ، فبعد أن قدم عمرو خالد وتلاميذه من دعاة الفضائيات الدين التاك أواي، وبعد أن أبتكرت كفايه والجمعيات الحقوقية السياسة ال تاك أواي، جاء وقت الكتابة التاك أواي، فالبرجوازية الجديدة قد باضت وفرخت جيلا من (الكتاكيت) التي تمتلك تعليما عاليا وثقافة ضحلة تتناسب مع أرواحهم الضحلة ووعيهم المبتسر المشوه، وأصبحت الكتابة والقراءة موضة البرجوازيين الجدد، الذين رضعوا لبان الثقافة الرفيعة في الأعمال الباهرة لنبيل فاروق مبدع سلسلة (رجل المستحيل)، وبدلا من جلسات النميمة الأعتيادية على المقاهي والكافتريات الفاخره، صارت الكتابة هي اللعبة الجديدة والقراءة هي النشاط الأحدث لفقس البرجوازية الجديدة، ولأنه إن وجد المستهلك وجد السوق فقد أتت الحقبة الذهبية لجيل كامل من (ملوثي الأوراق بالكلمات) يضخون للمطابع القطرات التافهة لخيالهم المنعدم وموهبتهم المتلاشيه بكتابات تشبه من يقرأون لهم ، ضحلة ومبتسرة ولا معنى لها ولا قيمة إبداعيه ولا ثقافيه، ولا حتى قدرة لغويه.
أسمحوا لي هنا أن أتذكر قانون أخر من قوانين الطبيعة لاقى نجاحا مذهلا عند تطبيقه إجتماعيا:، ينص ذلك القانون على أن الأنظمة الجزئية تميل لتمثل النظام الكلي الذي تنتمي إليه، ففرع الشجرة يتمثل بنية الشجرة ككل، والصخرة تتمثل بنية الجبل الذي قطعت منه، وعليه فإن هذا النوع من الكتابة ليس بالشاذ ولا بالغريب، بل هو أبن مجتمعه يتمثله ويشابهه، مجتمع يدخل في المراحل الأخيرة من تحلله الإجتماعي والحضاري وقد تهشمت هويته تحت ضغط الحكم الفاسد البوليسي، وهجمات ثقافة الصحراء البدائيه، والحقيقة أنه لا عجب أن يحترف أهل صناعة النشر تقديم مثل تلك البضاعة الرديئة الفاسدة للمستهلكين، فما الذي يجعل صناعة النشر مختلفة عن بقية الأنشطة التجارية بمصر؟، الا يضخ المستوردون في سوقنا أردأ وأسوأ ما أنتجته المصانع الصينيه؟ ألا تنتج مصانعنا أسوأ وأردأ المنتجات الصناعيه؟ ألا تستورد حكومتنا أردأ أنواع القمح في العالم ؟ ألسنا الشعب الذي أطعموه طعام القطط والكلاب بأعتباره (بلوبيف) وأفخاذ طيور البشروش بأعتبارها (أفخاذ ديوك روميه) هي نفس العقليه الراسماليه الفاسده، كما أكلتم طعاما فاسدا أقرأوا أدبا فاسدا وكتابة عفنه
لكن المثلث لا يكتمل إلا بضلعه الأخير
ضلعه الذي يقع لى عاتقه عبء التسويق والتنظير والتغليف
وهو ما أتركه للحلقة القادمه من حديثي عن نصل أوكام