قلت : " سأذهب إلى أرض ثانية و بحر آخر
إلى مدينة أخرى تكون أفضل من تلك المدينة
كل محاولاتي مقضي عليها بالفشل
وقلبي دفن كالميت
إلى متى سيكون فكرى حزينا ؟ أينما جلت بعيني ،
أينما نظرت حولي بإمعان ، رأيت خرائب سوداء من حياتي
حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت
لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى فسوف تلاحقك المدينة
ستهيم فى نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة
فى هذه الأحياء نفسها وفى البيوت ذاتها
سيدب الشيب إلى رأسك
وستصل دوما إلى هذه المدينة
لا تأمل فى بقاع أخرى ، ما من سفن تجليك عن نفسك
وما من سبيل .. ما دمت قد خربت حياتك هنا
فى هذا الركن الصغير .. فهى خراب أينما كنت فى الوجود
شاعر الإسكندرية الكبير قنسطنطين كفافيس
في حياتي ما أحببت قصيدة كتلك، وما كرهت قصيدة مثلما أكرهها
كان مساء دافئ من مساءات مايو كنت أجلس وصديقي الألماني مارك على سور الكورنيش في مواجهة محطة الرمل، كانت أمسيته الأخيرة بالإسكندرية بعد عام كامل من الإقامة فيها، كنت أواسيه وهو يبكي بحرقة، يبكي مغادرته للإسكندرية، يبكي شوقا إلى المدينة المقدسة، تأملت القوس البديع المضيء للميناء الشرقية عن يساري وهمست لها:" هل اقتنصت روحه؟" مارك عاد للإسكندرية مرة أخرى وتزوج سكندرية وغادر معها لأوروبا، وهو يعود لزيارة المدينة دوريا، أو أظنه يفعل- فزوجته منعته بعد أسلامه من التعامل مع أصدقائه الوثنيين من أمثالي الذين قد يفسدون قوة أسلامه- لكنني لن أنسى أبدا دموعه على سور الكورنيش ذلك المساء البعيد.
الإسكندرية
ليست ككل المدن، ليست كأي مدينة، تنشأ المدن لتسيطر على طرق التجارة أو لتعلن عصرا جديدا أو لتمنح غزاة جدد مدينة على ذوقهم، إلا الإسكندرية، فتلك البهية بين المدائن ولدت من حلم، من حلم ذلك المقدوني المذهب الخصلات، ولدت لتحمل أسمه وحلمه ورؤيته، لتكون المدينة الفاضلة، المقدسة، مدينة كل الحضارات واللغات والشعوب، مدينة التسامح الأقصى والقبول الذي لا حدود له للآخرين مدينة الفلاسفة والحكماء والمعرفة، المدينة التي ناطحت (روما) نفسها مجدا بمجد وهي وقتها لا تزيد عن مدينة مقهورة بحد السيف إلا أن روحها التي لا تقهر كانت تبز روح روما وتفوقها بما لا يقاس، الإسكندرية مدينة الفلاسفة وسيرابيس وأمنا أيزيس المقدسة، مدينة الحب والمعرفة التي لوثتها المسيحية الأسيوية المفترسة بإسالة دماء هيباتيا وتدمير السيرابيوم وطرد الفلاسفة وتخريب روح المدينة التي أصبحت زورا وبهتانا مقر عرش باباوات إلوهيم أله الصحراء الوحشي، تلك المدينة غسلت العار الذي وضعه المسيحيين على مصر كلها يوم استسلموا لجيوش العربان، تلك المدينة التي استبقت روحها الوثنية الحرة مخبأة في تجاويف المقابر السرية والمعابد المخربة تصدت للعربان وأبت الا أن تقاتل متترسة بأسوارها الجبارة ولم يهزمها سوى الجوع والعطش والطاعون وتلكك الأسطول الروماني عن النجدة، تلك المدينة التي كان وثنيوها هم أول وأخر من رفع السيف رادا العربان عن وادي النيل الذي أسلمه المسيحيون قربانا لتخلصهم من أاضطهاد الرومان المسيحيين كذلك، المدينة التي أهملها العربان عمدا وقتها حتى كادت تضمحل وتختفي والتي كانت إعادة أحيائها إيذانا بإعادة أحياء مصر بالعصر الحديث لتخرج من أسر عصور العثمانيين المظلمة، مدينة كفافيس المقدسة، البهية بين المدائن، المتباهية بين البلاد، المتوجة للمتوسط، الأبية ، الشامخة، العذبة الحنون، المملؤة شعرا وحبا وحكمة، الإسكندرية.
تلك كانت المدينة التي تركت وتلك هي المدينة التي عدت اليها
لا لأبقى
بل لأزور
وأنا..... من أنا؟
أنا أخر مجاذيب الإسكندرية
أنا أخر صدى لأخر كاهن لسيرابيس
أنا من منحته المدينة اسرار روحها فقبل أن يبقى دائما معلق ما بين العقل والجنون
ما بين الحلم والواقع
ما بين الحلم والكابوس
أنا سمعت همس الأرواح القديمة في ممرات مقبرة كوم الشقافة
وأنصت لضربات مجاديف سفن الأسكندر عند شاطئ البحر في ساعات الشروق المسحورة
أنا تحسست الدفء على شفاه التماثيل الرخامية في المتحف ورأيت الحقيقة في حدقاتها الصامتة
.........................
أنا بكيت حين رأيت الإسكندرية من الجو، بكيت كطفل صغير يشتاق لحضن أمه، كانت تهمس لي في نومي قبلها بشهور، وقبل مجيىء بأيام صارت تهمس لي في صحوي، كانت تناديني بأسمي وتهمس أنها لن تتركني أغادرها مرة أخرى، كنت أقول لزملائي وأصدقائي هاهنا بدبي أنني قد أبقى في الإسكندرية ولا أعود، كانوا يضحكون ويظنونني أمزح، لم أكن أمزح، كنت صادقا، فقد كانت تهمس بأسمي، المدينة المقدسة كانت تهمس بأسمي وكنت عاجزا عن المقاومة،كنت أعلم أنها ستستبقينني لو تركت لها نفسي، كنت أعلم أنها ستأسر روحي التي انتزعتها منها ممزقة مسحوقة قبل أكثر من عام لأرتحل للمدن الزائفة، بقيت متوترا متحفزا من لحظة وصولي أليها، كنت أعلم أن حضوري مؤقت ومحدود المدة وأن رحيلي محدد ومحتوم، أبقيت قلبي بعيدا مخبئا في صدري، أبقيت قلبي بعيدا عنك يا سكندريتي، ما توقفت لحظة عن عشقك ، عن حبك، عن تقديسك، عن الحلم بك، ما نسيتك ولا قسى قلبي، لكن الوعد محتوم وما سطر على جبيني يجب أن تراه عيناي، والعهود التي قطعت لا تنفصم ولا تكسر، بقيت متباعدا عنك، أنت يا سيدة المدن يا بهية في الأرض.
أكذب أن قلت أنني تاففت من شىء فيك، حتى ما أعتاد أن يضايقني وأنا أعيش فيك أصبح حلوا، أحببت غلاسة سائقي التاكسي، أحببت زحامك وضجيجك وجنون السيارات بشوارعك، كل ما فيك حلو يا مدينتي، كل ما فيك جميل، لكنني ابقيت قلبي مخبأ وبعيدا عنك، وأبقيت روحي مغلقة خوف أن تسلبيني اياها فلا أخرج منك مرة أخرى أبدا، فكان أن عاقبتني فأوقفتني في الغربة وأنا على أرضي وفي وطني ، الغربة لأنني أنا العاشق لبهائك لا أعود بجسدي بل يعود جسدي ليتحد بروحي التي تركتها فيك، مرة أخرى أعيش الأغتراب بشوارعك يا مدينتي.
لكن هذه المرة هو أختياري
ثلاثة ايام بالإسكندرية ثم كان علي الذهاب للقاهرة لأسباب بيروقراطية، في القطار الصقت وجهي بالنافذة طوال الطريق عيناي كانتا تلتهمان كل ما ترياه، المدن، القرى، الغيطان، الأشجار، بهية أنت يا بلدي، ولا جميلة سواك، خصبة أنت يا بلدي وإن بخلت علي، كريمة أنت يا ارضي وأن قترت علي، بديعة أنت وإن أغتربت عنك، فعليك السلام ومنك السلام وأليك السلام يا وطني، يا التراب العطر المقدس
يا مصر.
مجنونة هي القاهرة، وحشية ومنشغلة بنفسها، لم تكن علاقتنا ودودة أبدا، لم أحبها ولم تحبني رغم كل محاولاتي، ذلك الصباح في ميدان رمسيس، بالمكان الأكثر زحاما وجنونا وتلوثا ربما في افريقيا كلها، حدثت معجزة، معجزة لي وحدي، كنت مبتسما، أبتسامة عريضة كبيرة مبتهجة ، ومع الوضع في الأعتبار أن لا أحد على الأطلاق قد يبتسم وسط ميدان رمسيس في صباح حار رطب من صباحات يوليو فلابد أنني بدوت كحالة شاذة غريبة، في شارع القصر العيني كانت معجزة أخرى، ضربتني الفكرة كصاعقة، أنا أسير في القاهرة، أنا أسير بشوارع عاصمة وطني ، في قاهرة المعز، لا بل في قاهرة المصريين، أنا أسير على تراب وطني، هذه بلدي وأنا أنتمي لكل تلك الملايين العديدة التي أشبه كل واحد فيهم، يا للبهجة، يا للروعة، يا للقداسة وكأن الأرض كانت تحتضن خطواتي، يا للعجب ويا لشعوري بأستقرار وثبات خطواتي، يقولون لي دائما أنني أخطو على الأرض بخطوات قوية ثقيلة كأنما أسحقها بسيري، هذه المرة كنت أضرب الأرض بثقة وطرب لا حدود لهما، مشيت مبتسما في شارع القصر العيني وأنا أبتسم، أبتسم أبتسامة وسيعة لأن وطني قبلني عليه مرة أخرى قبلني وإن أرتبك عشقي بالأسكندرية وإن أنكرتني وأنكرتها، مصر لن تنكرني، ألثم شوارعك يا قاهرة، ألثم مأذنك وقلعتك ألثم عتبات مسجد السلطان حسن وأمسح وجنتي بمحرابك يا الكنيسة المعلقة، أه يا وطني كم أشتقت أليك
يا وطني البخيل علي المقتر ، أنا أعشقك.
وصلت إلى غايتي الثانية، تلك المكتبة الكائنة بمنتصف الشارع، طلبت من البائعة عشر نسخ من ديواني الشعري الذي لم أرى أو أمتلك نسخة منه منذ أكثر من سنة وهو أبني البكر والوحيد، بعد الكثير من الأصرار مني والبحث المضني مني وضعت بين كفي أحد النسخ، ضممته وهمست: أزيك يا ولدي...وحشتني.
وشعرت أن المدن الصحراوية الزائفة لن يكون لها سلطان أبدا علي.
أبدا
أبدا
(يتبع)