أظن المرة الأولى التي رايت فيها كتابا لتورجينيف كانت معرضا ما من معارض الكتاب في النصف الثاني بالتسعينيات, لم يكن الأدب الروسي وقتها غريبا علي طبعا, كنت قد مررت- اي كلمة خائبه مررت هذه- أقصد كنت قد استلبت بديستوفسكي, وأنذهلت بجوجول, وثملت بتشيكوف, وعشقت جوركي, وبنيت موقفا تجاه تولستوي, وصولا لروعة جبروت ومجد شولوخوف , وقوة سيرافيموفيتش المركزه العنيفة كأعصار, لسبب ما اشتريت الكتاب, ليس كتابا واحدا بل مجموعة الأعمال الكاملة في خمس مجلدات من إصدار دار (رادوغا), ولسبب ما قررت وضعها جانبا , وعدم الإلتفات إليها, أعتبرتني مشبعا بالأدب الروسي, وأنه يكفيني من الأدب الروسي بالقرن التاسع عشر كلا من الإلهين ديستوفسكي وجوجول, ثم أن الزمن كان زمن الواقعية السحرية, والأطياف الملونة الأتية من أمريكا اللاتينية, كان زمن مركيز- قبل أن يقرر أشباه مثقفي وسط البلد أن مودته أنتهت- إذن من يحتاج للجد تورجينيف الرمادي الأتي من القرن التاسع عشر؟
أعترف مطرقا للارض خجلا أن تلك المجلدات لم تفتح ابدا لسنوات وأنني دائما ما وجدت شيئا أحق بالقراءة منها, وأنني في النهاية أهديتها لشخص ما ونسيت, بمعرض الكتاب الماضي, وجدت نفس المجلدات أمامي بنفس الطبعة, الحقيقة مجرد مجلدين فقط, الرابع والخامس, أشتريتهما ربما لأنها اصبحت نسخة نادرة, وأنها لن تتوفر ابدا مرة أخرى, ولعل وعسى, من يدري ربما اقرأه يوما ما, ولشهور بقى المجلدين راقدين بهدوء وسط كتيبي, حتى أتى اليوم الذي ألتقطت فيه المجلد الرابع عرضا بقصد الإطلاع السريع فقط, وكانت تلك لحظة أن دخلت في حضرة السيد تورجينيف, لحظة أن أنفجرت بوجهي كل تلك القدرة الرائعة على سبك الجمل وصياغة الكلمات والوصف والغوص في أعماق البشر, وتحويل قصص بسيطة وحبكات تبدو حتى ساذجة إلى إثارة رائعة فخمة مبهرة وكثيفة لكن غير متعاليه, كتابة تشبه إحتضان الجدة العجوز التي تأخذك إلى جانبها اسفل شالها الثقيل الدافىء وتحكي لك وهي تمسد كتفك بحنو ورقه.
كم أشعر بالذنب أني اضعت كل تلك السنوات دون التشرف بمعرفة السيد تورجينيف, والجلوس في حضرته, والإغتراف من روعة كتاباته
أه ايها العظيم إيفاتن تورجينيف كم من الروائيين المصريين الكبار بنوا عروشهم الأدبية من الفتات الذي تساقط منك وأنت تشيد صرحك الجبار, وكم يبدون أقرزاما ومضحكين مقارنة بعمق بساطة حكمتك وكثافتها, كم تبدو موهبتم تافهة مقارنة بك كما تبدو الطحالب تافهة مقارنة بشجرة الجميز العفيه
سيدي العزيز اسمح لي ان اضيف قرائي على شىء من كتاباتك
يقول تورجينيف: ( الحياة رغيدة للحمقى بين الجبناء)
بتلك الجملة وحدها فتحت عيني لأرى كيف يسود السخف كل شىء, ولم يسير في معرض الكتاب خيري شلبي متابطا ذراع تافه زائف مثل أحمد العايدي, ولم يتحول كائن مثل مرتكب جريمتي شيكاغو وعمارة يعقوبيان إلى روائي مصر الأول, ولم تمتلىء رفوف المكتبات بإفرازات زواحف أدبية تحت مسميات روايات وقصص واشعار, نعم ياسيدي للحمقى رغد الحياة بين الجبناء, ونحن مملكة الجبناء فنحن فردوس الحمقى الأعظم
يقول تورجينيف: ( في ايام الشكوك, في ايام الفكار المضنية في مصائر وطني , أنت وحدك سندي ودعامتي, أيتها اللغة الروسية, العظيمة, الجبارة, الصدوق, الطليقة, وكيف لي, لولاك, أن لا أسقط في الياس, وأنا أرى كل ما يجري في بلادي؟ ولكن لا يجوز التصديق بأن مثل هذه اللغة لم توهب لشعب عظيم!)
أه يا سيد تورجينيف, يا من وجدت سلوتك وعزيمتك في لغة وطنك, أين أنا منك, أنا أنتمي لأمة بلا لغة, ولوطن لا لسان له, نعم سيدي, وطني لا لغة له, تلك اللغة العربية مهما كانت رائعة وعظيمة وقوية وخصبة, تبقى لغة غريبة, تبقى لغة بعيدة, تبقى لغة اتت من هناك, لم تولد بين شفتي ايا من اسلافي, ولم يغني بها الفلاحون وهم يحولون مجرى النيل, ولم يترنم بها الكهان في نمعابد وطني القديمة, أتعرف يا سيدي , يبدو كأنما الكل تأمر على لغة وطني, أكاد اسمع الأن قارئا مسيحيا مصريا يصدر أهة الفرح هاتفا: صحيح...فلغتنا الحقيقية هي القبطيه, أترى اي سخف أعيشه ياسيدي؟ الكل يتناسى أن المؤامرة الأولى على لغة مصر حيكت بليل في واحد من أديرة الرهبان أو أمام مذبح كنيسة ما, لم يكفي المسيحية أن أحتزت روح مصر واقتلعت جذور شخصيتها ساحقة ألهتها العريقة ومدمرة حضارتها الأكثر مجدا, بل كان يجب أن تكتمل الماساة بتشويه اللغة نفسها, ليستبدلوا الحروف المصرية الاصلية باخرى يونانية غريبة لم تسع لغتنا بكل ثرائها فاضافوا لها سبع حروف من لغتنا الصلية ليخلقوا مسخ اعرج مدجن ومسحوق بقبضة المسيحية الثقيله, الحقيقة انا أود أن يجلو شخصا ما جهلي ويدلنبي على ما أنتجته اللغة المصرية المكتوبة بالحرف القبطي من أدب أو فنون قوليه
ثم أتت القاضية يا سيدي مع اللغة العربية, أكثر لغات العالم غرابة, اللغة التي ولدت في السماء فاتت مكفنة بالقداسة, لغة الملائكة وأهل الجنة, عجيب أن تكون لغة مقدسة وتحتوي كل هذا القدر من الفاظ السباب واللعن, تلك اللغة التي أصابت مصر بالخرس فلم تنطق حرفا بها, ما يقرب من الف وخمسمائة عام عقمت فيها مصر أن تلد أديبا واحدا يستخدم العربية, الف وخمسمائة عام دون اي أنتاج أدبي ذو قيمة بتلك اللغة المقدسة الجميلة والثرية و...الغريبه
ليس لوطني لسان يا سيدي, ولا لغة لنا , لغتنا ليست المصرية, لغتنا العربية
تبقى غريبة
ويبقى وطني غريبا
وابقى لا سند ولا دعامة لي
قل لي يا سيدي
كيف تكون كتاباتك بتلك الحياه, ويكون واقعنا بهذا الموات؟
هل في حكمتك ما يكفي لإيجابي؟
ياسر